الدقة والموضوعية في اليوم العالمي للغة العربية

مقال محمد العوضي














طبيعي أن يُحبَّ الإنسان لغته الوطنية والقومية، وأن يعتزّ بها، وبما يميّزها من خصائص وجماليات وآدابٍ وزخارفَ لغويةٍ، ليست في غيرها من اللغات، وذلك على جميع مستويات المنظومة اللغوية (المفردات والتراكيب والدلالة والبلاغة والبيان والمعاجم والأصوات والمخارج وتوزيعها على جهاز النطق، والنظام الصرفي والاشتقاقي والنحوي ).
فاللغة أيًّا كانت ليست مجرّدَ نظامٍ من الرموز، يتواصل الناسُ بها منطوقةً ومكتوبةً، إنها رباطٌ جامع بين أبناء الأمة، ووعاءٌ للفكر والثقافة والهويّة والوجود والتاريخ والعادات والتقاليد والقيم والموروثات والحضارة، فكيف إذا كانت هذه اللغةُ أعظمَ اللغاتِ وأشرفها، اختارها الله تعالى دون غيرها من اللغات لتكون لساناً للوحي والذكر الحكيم، ولخاتم الأنبياء، ولأشرف الرسالات، يتعبّد بها نحو مليار ونصف المليار عربي ومسلم، يتوزّعون على جميع القارّات والبلدان.
مقبولة جميع تلك الصور المتقدّمة من محبة اللغة العربية، والإعجاب بها، والدعوة إلى التمسك بها، وتمكين استعمالها منطوقةً ومكتوبةً، والذود عنها من الدعوات المشبوهة، ومن محاولات إضعافها أو إقصائها، والدعوة إلى تيسيرها، وتطويرها لتواكب احتياجات عصر المعرفة الرقمية والمعلومات، لكن من غير المقبول أن نسرف في إعجابنا وعاطفتنا في محبتنا للغة العربية على حساب الموضوعية والدقّة. وأمثلة هذا تتكرر كلّ عام بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية في 18 ديسمبر، وقد بدت جليّةً في رسائل، وصور، وفيديوهات، وشهادات المستشرقين، والزخارف اللغوية، وتعدّد دلالات رسم الكلمة بتعدد الوجوه التي تسمح بقراءتها غيرَ مضبوطة بالشكل، وغير ذلك مما تناقله الناس في منصّات التواصل الاجتماعي.
ومما يؤسف له أن بعضها غير صحيح، ويفتقر إلى الدليل والتوثيق بالعزو إلى المصدر أو المرجع أو الهيئة العلمية المتخصّصة المعتمدة الموثوقة.
وسنقف عند موضوع واحد منها، ولعلّه أهمّها، وهو عدد كلمات اللغة العربية وموازنتها بنظيراتها من اللغات العالمية الأخرى، فقد كثر تداوله، والتساؤل عن صحته، إذ جعلت تلك الموازنة مبلغ عدد كلمات العربية (12302912) كلمة في مقابل (600000 الإنكليزية، 150000 الفرنسية، و130000 الروسية)، وهذا غير صحيح البتة، بأدلّة كثيرة، أطلعنا عليها الزميل في الكلية الدكتور يحيى مير علم من قسم اللغة العربية المشتغل والمختص في هذا الباب فذكر منها:
1 - مبلغ عدد كلمات اللغة العربية ورد بلا توثيق دقيق، مما يدلّ على أنه صدر عن غير مختصّ بالعربية، وغير مطّلع على المعاجم والدراسات الإحصائية اللغوية للجذور والأفعال والأبنية والحروف، وعمّن لا يعلم الفروق في ما بين هذه والمصطلحات والأنواع من الإحصاءات.
2 - لا سبيل إلى إحصاء كلمات اللغة العربية بخلاف اللغات الأخرى، لأن اللغة العربية اشتقاقية، تتميز بقلّة الجذور، سواء أكانت هذه الجذور أفعالاً ثلاثية أو رباعية مجردة، وهي الأكثر، أم كانت أسماءً، يقوم النظام الصرفي العربي ونظام الاشتقاق بتوليد (اشتقاق) ما لا يحصى من الكلمات منها.
3 - منهج أصحاب المعاجم العربية القديمة والحديثة في ما يوردونه في شرح الجذور أو المداخل المعجمية كان منهجاً دقيقاً، يناسب ميزة الاشتقاق في اللغة العربية، لذلك لا نجدهم يذكرون غالباً في شرح المواد اللغوية جميع ما كان قياسياً من الأفعال المزيدة والمشتقات القياسية، والأسماء الفرعية وسواها لأنه معروف، يتم توليده وفق قواعد الصرف والاشتقاق، لذلك اقتصروا في شروحهم غالباً على دلالات الكلمة، وعلى ما كان سماعياً مثل جموع التكسير وغيرها، أو تنبيهاً على أمرٍ ما.
4 - الدراسات الإحصائية الحاسوبية لأكثر المعاجم العربية القديمة والحديثة قديمة، تعود إلى السبعينات، على تفاوت في ما بينها في الدّقة والمنهج والنتائج.
أقدمها ثلاثُ دراسات إحصائية رائدة، صدرت تباعاً عن مطبوعات جامعة الكويت للدكتور علي حلمي موسى، تناولت معاجم: (الصحاح) 1971 و(لسان العرب) 1972، و(تاج العروس) «بالاشتراك مع د. عبد الصبور شاهين» 1973، كان قد عرض لها الدكتور يحيى مير علم موازناً بين نتائجها ونتائج دراسته الإحصائية التي تناولت خمسة معاجم هي: (تهذيب اللغة) و(جمهرة اللغة) و(المحكم) و(لسان العرب) و(القاموس المحيط)، وقدّمها أطروحة ماجستير عنوانها (المعجم العربي: دراسة إحصائية لدوران الحروف في الجذور العربية) جامعة دمشق، 1983، وفي دراسات معجمية أخرى، منها (ريادة العرب في الإحصاء اللغوي) مجلة جامعة المنوفية، يوليو 2014م، و(الأفعال والجذور والأبنية في اللغة العربية: دراسة إحصائية مقارنة) مجلة كلية اللغة العربية بالمنصورة، جامعة الأزهر، الجزء الثالث، العدد 35، أغسطس 2017م.
5 - أهمّ دراسة إحصائية حاسوبية حديثة معاصرة، تناولت الأفعال العربية الثلاثية والرباعية المجرّدة والمزيدة مستغرقةً جميع تقسيماتها الصرفية الثلاثين وتقسيماتها النحوية كانت (إحصاء الأفعال العربية في المعجم الحاسوبي) وهي من إعداد
(أ. مروان البواب، د. محمد مراياتي، د. يحيى مير علم، د.محمد حسان الطيان) صدرت في مكتبة لبنان، 1996م في نحو 600 صفحة.
واعتمدت أفعال اللغة العربية الواردة في (المعجم الحاسوبي) مما جاء في معاجم مختارة قديمة وحديثة، هي: (لسان العرب) و(القاموس المحيط) و(تاج العروس) و(محيط المحيط) و(متن اللغة) و(المعجم الوسيط) و(المعجم المدرسي).
6 - انتهى مبلغ الجذور الثلاثية والرباعية في المعجم الحاسوبي إلى 7420 جذراً، في حين وصلت جُملة الأفعال الثلاثية والرباعية المزيدة إلى 16235 فعلاً. وبذلك يكون مجموع الأفعال الثلاثية والرباعية مجردةً ومزيدةً 23655 فعلاً.
وهذا بعيد جدّا من مبلغ عدد كلمات اللغة العربية الواردة في الموازنة غير الدقيقة المشار إليها آنفًا.
وللحديث تتمة تخصصية لا بد من عرضها لمعرفة عُمق الموضوع وتهاون الناس واستسهالهم لتناوله لدرجة العبث بالعلم والتخصص.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ركن الفهم شرح الأصول العشرين الإمام حسن البنا الأصل السابع

من نجد تخرج الفتن (الحلقة الأولى)

الادلة القاطعة بمشروعية احتفال مولد النبي صلي الله عليه وسلم